اللذة والألم بحسب القديس مكسيموس المعترف
في مئوياته في اللاهوت، يشير القديس مكسيموس المعترف إلى رابطة ثنائية بين اللذة والألم، وهي موضوع مهم بحسب كل المعايير. هذا يعني أننا لا نستطيع مناقشة اللاهوت الأرثوذكسي إن فشلنا في مواجهة هذه النقطة الحاسمة. لأن السمو على اللذة والألم هو متطلب أساسي للاهوت الأرثوذكسي الصحيح. كما يقول القديس مكسيموس المعترف: "الارتفاع فوق اللذة والألم يثبت أن قلب الإنسان قد تنقى من الأهواء".
كما أشرنا سابقاً، كل الحياة العصرية يحكمها اللذة والألم إذ يسيطر في عصرنا التمتع والابتهاج، بينما في الوقت نفسه يسود الأسى العميق والألم الداخلي. في الحقيقة، يحاول الإنسان المعاصر أن يهرب من الألم عن طريق إشباع اللذة الحسية. كل المشاكل المعاصرة، كالإيدز والمخدرات، على ارتباط هذا الأمر. لهذا أرى من الضرورة القصوى أن نرى هذا الرابط بين اللذة والألم كما فصّله القديس مكسيموس المعترف.
أ. أصل اللذة والألم
الله بالثالوث خلق العالم. أكثر المخلوقات كمالاً هو الإنسان لأنه قمة الخليقة. إنه العالم الصغير (microcosm) في العالم الكبير (macrocosm). في تحليله لموضوع خلق الإنسان وعلاقة هذا الخلق بولادة وأصل اللذة والألم، يقول القديس مكسيموس أن الله الكلمة الذي خلق طبيعة الإنسان، خلقه بدون لذة وألم. "لم يصنع الحواس عرضةً للذة والألم". يشدد على هذه النقطة بقوله "اللذة والألم لم يُخلقا بنفس الوقت مع الجسد".
في حين لم يكن في الإنسان لذة وألم قبل السقوط، فقد كان لديه في النوس مَلَكة ميل طبيعي نحو اللذة، ومن خلال هذا الاستعداد يستطيع التمتع بالله بشكل يفوق الوصف. لكن الإنسان أساء استعمال هذه الملكة الطبيعية ووجّه "التوق الطبيعي للنوس نحو الله" إلى الأشياء المحسوسة وبالتالي "بالحركة الأولى نحو الأشياء المحسوسة، حوّل الإنسان الأول هذا الشوق إلى حواسه، ومن خلالها راح يختبر هذه اللذة بعكس الطبيعة". عبارات "بحسب الطبيعة" و"بعكس الطبيعة" تظهر بشكل كامل التغيّر الوجودي (ontological) الذي حدث في الإنسان، وتصوّر بوضوح حالته الساقطة.
هذا الأسلوب لعمل مَلَكات النفس لم يخترعه الإنسان من عنده إنما بتوجيه من الشيطان الذي كان مُحركاً بالحسد من الإنسان الذي أظهر الله نحوه اهتماماً وعطفاً خاصين. من المثير أن الشيطان لم يحسد الإنسان فقط بل الله أيضاً: "لأن الشيطان يحسدنا كما يحسد الله، أقنع الإنسان بالنفاق بأن الله يحسده (أي الإنسان) وهكذا جعله يخالف الوصية".
بعد التحرك غير الطبيعي لقدرة النفس النوسية نحو الأشياء المحسوسة وولادة اللذة، الله "زرع الألم كنوع من القوة المؤدبة للنفس" وذلك حرصاً منه على خلاص الإنسان. هذا الألم هو كل عقدة الجسد المائت والسريع التأثر وقد ربطه الله، في محبته للإنسان، باللذة الحسية. إنه قانون الموت المرتبط بالطبيعة البشرية منذ وُجد. بهذه الطريقة كُبح "شوق النوس الجنوني" الذي يحرّض الميل غير الطبيعي للنفس نحو الأشياء المحسوسة.
هناك تعليم أفلاطوني يتكلّم عن حركة النفس الخالدة في عالم الأفكار الذي لم يُولد بعد، وعن ولادتها في جسد مائت هو بمثابة سجن لها. لا يوجد أي علاقة بين تحليل القديس مكسيموس المعترف بأكمله وهذا التعليم. هذا ببساطة لأن القديس مكسيموس المعترف، كونه عضواً كاملاً في التعليم الأرثوذكسي، لا يفرّق بين نفس خالدة بطبيعتها وجسد مائت بطبيعته، ولا يؤمن بعالم الأفكار الخالد الذي لم يُولَد بعد، وبشكل طبيعي لا يتبنّى النظرة الإثنينية إلى الإنسان التي بحسبها يكون الخلاص بتحرير الإنسان من سجن الروح الذي هو الجسد. في تعليم القديس مكسيموس إشارة واضحة إلى الحركة غير الطبيعية لمَلَكات النفس وإلى "شوق النوس المهووس" الذي يقود إلى حالات وأعمال ضد الطبيعة.
واضح إذاً أن الخطيئة الجديّة تتكوّن من "حركة النفس الأولى" نحو الأشياء المحسوسة وفي قانون الموت الذي وضعته محبة الله. إذاً اللذة والألم يكوّنان ما يسمّى بالخطيئة الأصلية. اللذة هي حركة النفس الأولية نحو الأشياء المحسوسة، بينما الألم هو كامل ناموس الموت المتجذّر في كيان الإنسان والذي يشكّل ناموس الجسد المائت.
يقدّم القديس مكسيموس المعترف بعض الملاحظات الرائعة. إنه يقول أن انتهاك الوصايا ابتكر اللذة لتعطيل الإرادة أي حرية الإنسان، وفرض الألم لتسبيب انحلال طبيعته. هذا يعني أن اللذة تسبب الخطيئة التي هي موت طوعي للنفس، بينما الألم عن طريق فصل الجسد عن النفس يسبب انحلال الجسد. بالواقع هذا كان عمل وهدف الشيطان، لكن الله سمح بالارتباط بين اللذة والألم، أي انه سمح للموت بالدخول إلى وجود الإنسان، من باب المحبة والإحسان، إذ أن الألم هو ضحد اللذة.إذاً "الله تدبيرياً أعطى الإنسان الألم الذي لم يختره مع الموت الناتج عنه، لكي يؤدبه على اللذة التي اختارها".
في مواقع عديدة يشير القديس مكسيموس المعترف إلى "اللذة الطوعية" و"اللذة غير الواعية"، كما يشير إلى الألم "غير الطوعي" و"الإحساسي". الألم يوازي نتائج اللذة، أي ينقص الألم، لكنه لا يبطله.
إذاً اللذة تسبق الألم، لأن كل ألم سببه اللذة ولهذا يسمّى ألماَ طبيعياً. بالنسبة لآدم وحواء، اللذة كانت بلا سبب أي لم يسبقها ألم، في حين أن الألم وهو نتيجة طبيعية للذة هو واجب ودين يدفعه كل البشر الذين لهم الطبيعة البشرية نفسها. هذا ما جرى لآدم وحواء. أما للمتحدرين منهما فالأمر يختلف قليلاً، خبرة الألم تقودهم إلى التمتع باللذة. بعد السقوط ودخول ناموس الخطيئة والموت إلى طبيعة الإنسان، صار هذا الأخير في حالة مأساوية. فبالرغم من أن الألم يبطل اللذة ويلغي حركتها الفاعلة، لا يستطيع الإنسان أن يبطل أو يبعد ناموس الموت الموجود في داخل كيانه، وهذا الناموس يجلب خبرة جديدة للذة. "الفلسفة من أجل الفضيلة" أي كل جهاد الإنسان النسكي يجلب الهدوء في إرادته وليس في طبيعته، لأن النسك لا يستطيع غلبة الموت الموجود كقانون قوي في كيان الإنسان. هنا تكمن مأساة الإنسان الذي قد يشفي اللذة ويكتسب انزاناً داخلياً عن طريق اللم الطوعي -أي النسك- وأحداث غير طوعية –حزن خارجي، موت…) لكنه غير قادر على تحرير نفسه من الألم الذي يحتمه ناموس الموت.
ب. هدف تجسد المسيح
حتى الآن، وضعنا كيف نشأ الارتباط بين اللذة والألم بعد السقوط. اللذة كانت نتيجة للحركة غير الواعية لمَلَكة النفس، ونتيجتها الطبيعية كانت مجيء الألم مع كل ناموس الموت. تركيبة اللذة والألم هذه أصبحت ناموساً للطبيعة البشرية. واضح أن الإنسان لا يستطيع التحرر من هذه الحالة التي أصبحت طبيعية في وقت يسلك حياة معاكسة للطبيعة. تجسد المسيح ساهم في تحرير الإنسان من هذا الارتباط بين اللذة والألم. يضع القديس مكسيموس المعترف بعض الملاحظات الرائعة على هذه النقطة أيضاً.
لقد كان مستحيلاً بالمطلق للطبيعة البشرية التي سقطت في اللذة الطوعية والألم غير الطوعي أن تعود إلى الحالة السابقة "لو لم يصبح الخالق إنساناً". سر التجسد يكمن في حقيقة أن المسيح وُلد بشرياً، لكن بداية وسبب ولادته لم اللذة الحسية لأنه وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء، خارجاً عن طريقة البشر بالتوليد، وقبل طوعاً الألم والموت باختياره الحر. بالنسبة للإنسان، الألم أتى كنتيجة للخطيئة، لم يكن إرادياً. أما بالنسبة للمسيح فقد وُلد من غير لذة حسية وتقبّل الألم باختياره.
كل البشر المولودين بعد الخطيئة مولودون باللذة الحسية التي تسبق مولدهم، لأن الإنسان هو نتاج لذة أهله وبالطبع ليس من أحد حر بالطبيعة من الولادة المشبوبة التي تسببها اللذة. وهكذا أصل ولادة الإنسان "في الفساد المتأتي من اللذة" وسوف ينهي حياته "في الفساد الذي يأتي من الموت". عليه إنه كان مستعبداً بشكل كلي للذة والألم "ولم يستطع أن يجد الطريق إلى الحرية". "البشر معذبون باللذة غير العادلة والألم العادل، وبالطبع بنتيجتهما التي هي الموت".
ولكي يعود الإنسان إلى حالته السابقة ويتأله، يجب اختراع ألم غير عادل وموت من دون سبب. يجب أن يكون الموت بلا سبب أي غير مسبب من اللذة، وغير عادل أي لا يأتي بعد حياة شهوانية. بهذه الطريقة يشفي الموت غير العادل اللذة غير العادلة التي سببت الموت العادل والألم العادل. بهذه الطريقة يتمتع الجنس البشري بالحرية مجدداً متحرراً من اللذة والألم. المسيح أصبح إنساناً كاملاً ذا نفس نوسية وجسد مائت، مثل جسدنا، ولكن بدون خطيئة. وُلد كإنسان من حبل بلا دنس وهكذا لم يكن لديه أي لذة حسية في كل الأحوال ولكنه طوعياً ارتضى الألم والموت وتألم بطريقة غير عادلة لمحبته للإنسان من أجل أن يبطل المبدأ الذي يسيطر على الطبيعة البشرية، مبدأ الولادة البشرية من لذة غير عادلة، ومن أجل إلغاء الموت كنهاية عادلة للطبيعة. وهكذا ولادة المسيح من حبل بلا دنس كإنسان وأخذه الطوعي لمواتية الطبيعة البشرية كما موته غير العادل، حررت الجنس البشري من اللذة الحسية والألم والموت.
ولادة المسيح كإنسان تمت بطريقة مغايرة لولادة البشر. بعد السقوط، صار مبدأ الولادة في الطبيعة البشرية في "تحرك اللذة بالبذرة من الوالد". النتيجة المباشرة لهذه الولادة الحسية هي النهاية، أي ما يسمى "الموت المؤلم من خلال الفساد". لكن المسيح لم يكن ممكناً أن يتسلط عليه الموت، لأنه لم يُولد بهذه الطريقة القائمة على الإثارة المتأتية من اللذة. بتجسده، منح المسيح للإنسان مبدأ مختلفاً للولادة، لذة الحياة الآتية عن طريق الألم. آدم بمخالفته أدخل طريقة مختلفة للولادة، أي ولادة أصلها من اللذة الحسية ونهايتها في الألم والحزن والموت. إذاً كل مَن يتحدر من آدم بحسب الجسد سيخضع لنهاية الموت العادل ولكن بألم. المسيح أعطى طريقة أخرى للولادة لأنه من خلال ولادته بدون زرع وموته الطوعي غير العادل، ألغى مبدأ الولادة بحسب آدم (اللذة الحسية) والنهاية التي أتى إليها آدم (الألم – الموت). بهذه الطريقة "حرر من هذه كل المولودين جديداً بالروح فيه".
إن الطريقة التي بها أصبح المسيح متجسداً وشفى الطبيعة البشرية تظهر بشكل لا يقبل الجدل انه حكيم وعادل وقدير. إنه حكيم لأنه أصبح إنساناً حقيقياً بالطبيعة من دون أن يخضع لأي تغير. إنه عادل لأنه طوعياً اتخذ الجسد البشري المائت لمحبته للبشر وتعطفه عليهم. لهذا أيضاً لم يجعل خلاص الإنسان ملتوياً. إنه قدير لأنه خلق الحياة الأبدية والهدوء الثابت في الطبيعة عن طريق العذاب والموت وبهذا لم يظهر نفسه غير قادر على تحقيق شفاء الطبيعة البشرية.
ج. التبني الشخصي للخلاص
يجب على الإنسان أن يختبر شخصياً عمل المسيح وهدف تجسده. انتصار المسيح على الموت والألم يجب أن يصبحا العلاج الشخصي لكل كائن بشري. هذا يعني أن كل إنسان مرتبط بالمسيح يجب أن يتحرر من الرباط المأساوي بين اللذة والألم، وخاصةً أن يتخلص من ناموس الموت المتجذر في الطبيعة البشرية. يجب أن نرى بتفصيل أكثر كيف يحلل القديس مكسيموس المعترف عمل اللذة والألم في الإنسان بعد السقوط، وكيف يحفظ حريته وشفاءه. إنها نقطة مهمة لأنها تظهر حالة البشرية الحاضرة كما تظهر أيضاً سبل تحريرها من تسلط الموت.
يحلل القديس مكسيموس المعترف أن هيمنة اللذة والألم لم تكمن في قابلية الطبيعة للموت. فبما إن ولادتنا تتم بطريقة ساقطة فإن اللذة الحسية والألم متجذران في كياننا. قوة الخطيئة تكمن في قابلية الطبيعة للموت من خلال اللذة وتسلط الموت والألم. هذا لنقول أن الخطيئة سببها اللذة الحسية ونتاجها الألم والموت طبعاً. لكن خبرة الألم تحوّل الإنسان نحو الانغماس الشهواني كدواء مريح وهكذا يزيد التمتع الجديد في اللذة والألم.
جدير بنا أن نورد نص القديس مكسيموس المعترف كاملاً لأنه مقطع رائع:
"إذ أن سلطان اللذة والألم ينطبق بوضوح على ما هو قابل للموت في الطبيعة البشرية. نحن نبحث عن كيفية تخفيف عقوبة الألم من خلال اللذة، وهكذا في طبيعة الأشياء زيادةً للعقوبة. إذ في رغبتنا بالهرب من الألم ننشد ملاذاً في اللذة، وهكذا نحاول جلب الغوث لطبيعتنا المضغوطة كما هي في العذاب. ولكن من خلال محاولتنا بهذه الطريقة لثلم الألم باللذة، نضاعف مجموع ديوننا، .