و ما هي إلا شهور حتى تقدّم لخطبتي شاب يعمل في الإمارات ،كان هذا الشاب يتميّز بصفات إيجابية عديدة و أهمها " الإيمان " فقد لمست كثرة ذكره لله في أول زيارة لنا مع أمه ، و حين أتيحت الفرصة ، أسرّ لي بأنه قد صام شهر رمضان الماضي و أنه يذهب إلى المسجد في كل يوم جمعة لحضور خطبة و صلاة الجمعة !! هذا الأمر جعلني أوافق على الفور .و تمّت الخطوبة و كتب الكتاب ثم سافر و تبعته بعد شهرين إلى هناك ،سافرت كعروس تحلم بحياة ملؤها الحب و الإيمان و السكينة . هبطت الطائرة في مطار دبي ، و معها ، هبطت أحلامي الوردية إلى أرض الواقع المرير !! أجل ...فقد فوجئت بأن زوجي و للأسف الشديد كان على عكس ما تخيّلته تماماً فيما يخص مزاجه و أخلاقه و معاملته !! لن أطيل الوصف في هذا الجانب لكن يكفي أن أقول بأن حياتي كانت معه ألماً و عذاباً و شقاءً و دموعاً ... كنت أحاول أن أتصبّر بالله و أقول في نفسي ربما تكون هذه المحنة تكفيراً عن ذنوبي ، ربما صقلاً لشخصيتي ، لن أفقد ثقتي بالله فهو لن يأتيني إلا بخير إن شاء الله تعالى... فطلبت من زوجي أن يعلّمني الصلاة ففعل ، و ما كان يعرف آنذاك إلا ركعتي الجمعة فقط و لا يصلّي سواهما ، فتعلمتهما و صرت أصلّيهما حين أشعر بالضيق و الغمّ . ثم رحت أتوق للمزيد من الصلاة ، فسألت زوجي عن أوقات الصلوات و عدد الركعات ، فقال لي بأنه لا يعلم ، و لم يشجعني كثيراً على ذلك . لكن روحي الظمأى اشتاقت لتعلّم الصلاة على أصولها ، فمن عساي أن أسأل و أنا في بلاد الغربة و لا أعرف أحداً إلا بعض العائلات من أهل الطائفة ؟! خطر لي أن أذهب إلى المسجد المجاور لبيتنا و أسأل الإمام ، إلا أني خجلت و ما تجرّأت ،و خاصة أني كنت امرأة سافرة !!
لكن حين ينقطع الرجاء يبقى الأمل في رب الأرض و السماء ... رفعت يدي إليه جلّ في علاه و دعوته أن يعلّمني و يهديني و ألححت في الدعاء ، و إذ بالجواب يأتيني بطريقة عجيبة ! فقد كنت في أحد الأيام أنظّف المنزل و أرتّب الأدراج ، و بينما أنا كذلك ، وقعت يدي على بطاقة مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية ، و على خلف البطاقة مكتوب ما يلي : صلاة الصبح ركعتان . صلاة الظهر أربع ركعات ...... الخ !
طبعاً قد يكون أحد الأشخاص قد أعطاها لزوجي فوضعها في الدّرج و نسيها ، لكني فرحت بترتيب رب العالمين كثيراً ، و لم أكد أصدّق عيوني ! فتعلّمت الصلاة و بدأت أواظب عليها .
كنت أستمتع بالصلاة كثيراً ، إلا أن صلاتي كانت من غير وضوء ! فما كنت أعرف كيف يتوضّأون ! فكنت أدخل إلى الحمام قبل موعد الصلاة و أغتسل بشكل عشوائي ثم أصلّي . استمرّيت هكذا لفترة من الزمن ثم بدأت الشكوك تساورني في صحة صلاتي و شعرت بضرورة تعلّم الوضوء . لكن أنّى لي هذا ؟ و من سيعلّمني ؟!
سيعلّمني الأحد الصّمد ، العليم الخبير ! ففي أحد الأيام عاد زوجي من العمل و بيده جريدة ، و أخبرني أن وزارة التربية تعلن عن حاجتها لمدرسين و مدرسات من شتى الاختصاصات ، و راح يشجعني للتقدّم لأن هكذا فرصة قد لا تعوّض ، فوافقت على فكرته و قدّمت طلباتي و بدأت أستعد لفحص المسابقة ، كان زوجي يشجّعني كثيراً لمصلحتي و لمصلحته تبعاً ! فأخبرني بأن لديه معارف في منطقة " خورفكان " حيث تعمل الزوجة هناك كمدرّسة و تستطيع أن تنفعني و تساعدني . فانطلقنا لزيارتهم ، و قامت السيدة بإحضار كل ما عندها من كتب تخص طرائق التدريس، و بعد أن انتهت الزيارة أخذنا الكتب و رجعنا إلى المنزل . و هناك ، جلست في الصالة أتصفّح الكتب و أطّلع عليها و إذ بورقة مطوية موجودة ضمن أحد الكتب لفتت انتباهي ، أخذت الورقة و فتحتها ، و إذ بكلمات مكتوبة بخط السيدة و بالقلم الرصاص : ( طريقة الوضوء : المضمضة ثلاث ، الاستنشاق ثلاث ....الخ) !!!
فسبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر . أخبرت زوجي بما يحصل و علّمته مما علّمني ربي . و سبحان الله ، فقد كان يخاف الله برغم كل ما يُظهر من سوء ، و كان يتقبّل مني ما يتعلّق بأمور الدين و إن كان يجادل و يعاند في البداية !
كل شيء كان على ما يرام فيما يخص عبادتي ما عدا أمراً واحداً كان يريبني و يقلقني ، إذ كانت تأتيني وساوس شيطانية و نفسانية حين كنت أتشهّد في الصلاة و أقول : " أشهد الاّ إله إلا الله و أشهد أن محمداّ رسول الله "! فالملّة التي كنت أنتمي إليها كانت تشكك في نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم ، و تثير حوله الشبهات و لا حول و لا قوة إلا بالله !
هذا الأمر كان يعذّبني و يؤرقني ، فكنت أستيقظ في جوف الليل أو قبل الفجر لأدعو الله أن يبصرني و يهديني ...
فو الله الذي لا إله إلا هو ، ما هي إلا أيام حتى حدث أمر غريب ، فقد زارنا صديق زوجي الذي كان يؤثّر عليه سابقاً و يأخذه إلى المسجد لحضور خطبة و صلاة الجمعة ، جاء ليبارك لنا في زواجنا و أحضر معه هدية ، كانت الهدية عبارة عن شيئين اثنين : مسجّلة ، و كتاب : ( سيرة رسول الله ) !!
أخذت الكتاب بقوة و بلهفة ، و قرأته و سهرت عليه حتى الثانية صباحاً و لم اتركه حتى أنهيته ، أنهيته و الدموع تنهمر من عيوني ثم قلت: ( أشهد ألاّ إله إلا الله و أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) . و من ذاك اليوم صرت متيّمة في كل ما يتعلّق بأمور الدين الإسلامي ، صرت أتابع البرامج الدينية في التلفاز بشكل دائم ، أستمع لكلام المشائخ و أتعلّم منهم و أقارن بين ما يقولونه و بين ما كنت عليه سابقاً ، و بدأت أهدم القديم البالي و أبني الجديد السامي . صرت مولعة بسماع القرآن ، و أفضّله على الأغاني و المعازف من قبل أن أعرف أنها محرّمة !
و الجدير بالذكر ،أني كنت أعلّم زوجي بكل ما أتعلمه لأنه ما كان يملك الوقت الكافي لمشاهدة البرامج بسبب دوامه الطويل و الصعب ، فكان يستمع إلي و كلّه آذان صاغية ، و يوماً بعد يوم بدأ زوجي يتغير نحو الأفضل في أقواله و أفعاله و أخلاقه و معاملته لي و للآخرين ، إلى أن وصلنا بفضل الله تعالى إلى مرحلة من التآلف و الصداقة حسدت نفسي عليها !
حتى في الأمور الدنيوية صار التوفيق حليفنا ، إذ قُبلت في سلك التدريس و تعيّنت بمدرسة من أفضل مدارس دبي من حيث الإدارة و الكادر التدريسي و غيره، و سكنا في بيت جميل و رخيص نسبياً وقريب من مدرستي ، ثم حصلت على رخصة قيادة و اشتريت سيارة ، و بدأ زوجي يرتقي في عمله وتتيسّر أمورنا عامة و لله الحمد . أما من الناحية الإجتماعية فكانت علاقتنا طيبة مع الجميع ، طبعاً ما كنّا نظهر لهم إسلامنا اتقاءً للمشاكل ، و لكنا كنا نتناقش معهم حين تسنح لنا الفرصة في بعض الأمور التي تخص جانب العقيدة و نبيّن لهم حقيقة الإسلام بأسلوب غير مباشر ، و بذلك كنا نتعايش بسلام مع المعارف في الإمارات و مع الأهل و الأقارب في سوريا أثناء الإجازات . لكن ! شاء الله تعالى أن يختبر إيماننا ليعلم أنعبده في الشدة و الضرّاء كما نعبده في الرّخاء و السراّء ! أنثبت عند المحن كما ثبت الصحابة الكرام ! ؟ إذ يقول الله سبحانه و تعالى في سورة آل عمران :
( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين * و ليمحّص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة و لمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصّابرين * ) . فالذي حصل أني قد بدأت أزداد إيماناً و التزاماً حين باشرت عملي في مدرستي ، فكل ما حولي كان يعزز ذلك : الحجاب كان ضرورياً و له جزء من درجة التقرير، و المواد التدريسية لا بد من ربطها ببعضها و بالتربية الإسلامية ، و المحاضرات الدينية كانت تُقام في المدرسة عند بعض المناسبات الدينية كرمضان أو ليلة الإسراء و المعراج و غيرها ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كانا مستمرّان ، بالإضافة إلى توزيع الكتب و الأشرطة الدينية على مدار السنة . ثم ازداد التزامي أكثر و أكثر بتعيين أمينة مكتبة جديدة في المدرسة ، و قد كانت سيدة إماراتية قمّة في الالتزام و التدين و النشاط الدعوي ، هذه الإنسانة كان لها التأثير على معظم المدرسات بشكل عام و عليّ بشكل خاص ! فقد أحبّتني كثيراً و أحببتها أكثر في الله ، ما كنت أترك فرصة إلا و أذهب إليها في المكتبة نجلس معاً نذكر الله و نستمع معاً إلى بعض الأشرطة ، و حين لمست مني التعطّش لطلب العلم الشرعي راحت تمدّني بالكتب و الأشرطة الإسلامية ، و تأخذني لحضور المحاضرات الدينية . و طبعاً ما كانت تعرف شيئاً عن حياتي الخاصة فيما يتعلّق بالدين و المذهب ، و ما أخبرت بذلك أحد . فما حدث أن زوجي بدأ يلاحظ التزامي ، فما عاد الأمر مجرد صلاة الفرائض الخمسة و صيام رمضان فحسب ، بل صار الأمر يتطور و يزداد يوماً بعد يوم ! صار هناك صلاة النوافل و قيام الليل و صيام التطوع ، و الصدقات و قراءة الكتب و سماع الأشرطة و حضور المحاضرات ...و غير ذلك من الأمور الأساسية و الفرعية في الدين التي بدأت أطبقها في حياتي و أدعوه إليها !
هذا الأمر أقلقه و روّعه كثيراً ، و صار يعترضني و يقول لي : " لا تتطرّفي ، إلى أين ستصلين ؟ "